معرفة الذات - فلسفة المنطق -

2012-04-09, 7:02 pm

في ليلة من ليالي بيروت الممطرة جلس سليم أفندي دعيبس أمام منضدة فوقها
أكداس من الكتب العتيقة و الأوراق المنثورة يقلب الأسفار و يرفع رأسه بين
الآونة و الأخرى مخرجا من بين شفتيه الغليضتين سحابة من دخان التبغ . و قد
كان بين يديه اذ ذاك رسالة فلسفية أوحاها سقراط لتلميذه أفلاطون في ((
معرفة الذات )).
كان سليم أفندي يتبصر آيات تلك الرسالة النفسية مستحضرا الى حافظتهما ما
قاله الفلاسفة و المرشدون في موضوعها حتى لم تبق شاردة مفكرإلا لازمت فكرته
و لا واردة لمعلم شرقي الا لاحمت ذاكرته ، حتى إذا ما غرقت ذاته في موضوع
معرفة الذات نهض فجأة و مد ذراعيه و صرخ بأعلى صوته قائلا : نعم . إن معرفة
الذات هي أم كل معرفة ، أما أنا فعلي أن أعرف ذاتي . و أعرفها تماما . و
أعرفها بتفاصيلها و معالمها و دقائقها و ذراتها . علي أن أزيل النقاب عن
أسرار نفسي و أمحو الألتباس عن مكامن قلبي . بل علي أن أبين معاني كياني
المعنوي لكياني الهيولي ، و خفايا و جودي الهيولي لوجودي المعنوي .
قال هذا بحماسة غريبة و في عينيه تتقد شعلة ( محبة المعرفة ) ، معرفة الذات
، ثم دخل الى غرفة محاذية و إنتصب كالتمثال أمام مرآة كبيرة تصل أرض
الغرفة بسقفها و نظر محدقا الى شبحه متفرسا في وجهه متأملا بشكل رأسه و
خطوط قامته و إجمال هيأته .
ظل واقفا جامدا على هذه الحالة نصف ساعة كأن الفكرة الأزلية قد أنزلت عليه
أفكارا هائلة بسموها تجعله بواسطتها يكتشف بواطن روحه و يملأ بالنور خلايا
ذاته . ثم فتح شفتيه بهدوء و قال مخاطبا نفسه :
أنا قصير القامة و هكذا كان نابليون و فكتور هوغو.
أنا ضيق الجبهة و هكذا كان سقراط و سبينوزا .
أنا أصلع و هكذا كان شكسبير .
أنفي كبير و منحنى الى جهة واحدة و هكذا كان سفنوزولا و فولتير و جورج واشنطن .
في عيني سقم و هكذا كان بولس الرسول و نيتشة .
عنقي غليظ و هكذا كان هانيبال و مرقس أنطونيوس.
فمي غليظ و شفتي السفلى ناتئة و هكذا كان شيشرون و لويس الرابع عشر.
أذناي مستطيلتان بارزتان الى الجهة الوحشية و هكذا برونز و سرفانتي .
و جنتاي بارزتان و خداي ضامران و هكذا كان لافيات و لنكن .
ذقني متقاهر الى الوراء و هكذا كان غولد سمث و وليم بث .
كتفاي متباينتان فالواحدة تعلو على الأخرى و هكذا كان غمبيتا و أديب إسحاق.
يدايا ثخينتا الكفين قصيرتا الأصابع و هكذا كان بليك و دانتون .
و بالإجمال جسدي ضعيف نحيل وهذا شأن أكثر المفكرين الذين تتعب أجسادهم في
مرامي نفوسهم ، و من الغريب أني لا أستطيع الجلوس كاتبا أو مطالعا إلا و
بجانبي إبريق القهوة مثلما كان يفعل بلزاك . و فوق ذلك فلي ميل الى معاشرة
البسطاء كتولستوي و مكسيم غوركي .و قد يمر اليوم و اليومان دون أن أغسل
وجهي و يدي و هكذا كان بيتوفن و ولتوتمن . و أما مجاعتي للمأكل الشهية و
الموائد المرصوفة بالألوان المتنوعة فتقارن نهم بطرس الأكبر و الأمير
الشهابي .
و وقف سليم أفندي دقيقة عن مخاطبة نفسه ثم لمس جبهته بأطراف بنانه و زاد
قائلا : هذا أنا . هذه هي حقيقتي . فأنا مجموع صفات كان حائزا عليها أعظم
الرجال من بدء التاريخ اى يومنا هذا . رأس الحكمة معرفة الذات .و أنا قد
عرفت نفسي في هذه الليلة و منذ الليلة سأبتدئ بالعمل العظيم الذي أنتدبتني
إليه فكرة هذا العالم بوضعها في أعماقي عناصر متعددة متباينة . رافقت عظماء
البشر من نوح الى سقراط الى بوكاشيو الى أحمد فارس الشدياق .

******************:
كتاب العواصف / جبران خليل جبران