الغزالي

بين
الغزالي و القديس أغوسطينيوس رابطة نفسية ، فهما منظران متشابهان لمبدأ
واحد ، رغم مابين زمانيهما و محيطيهما الا الاختلافات المذهبية و
الاجتماعية : أما ذلك المبدأ فهو ميل وضعي في داخل النفس يتدرج بصاحبه من
المرئيات و ظاهرها الى المعقولات فالفلسفة فالالهيات . اعتزل الغزالي
الدنيا و انفرد وحده متصوفا ، متوغلا في البحث عن تلك الخيوط الدقيقة التي
تصل أواخر العلم بأوائل الدين ، متعمقا في التفتيش عن ذلك الاناء الخفي
الذي تمتزج فيه مدارك الناس و اختباراتهم بعواطف الناس و أحلامهم .
و هكذا فعل أغوسطنيوس قبله بخمسة أجيال . فمن يقرأ له كتاب الاعتراف ( و هو
ابن الجزائر من مداوروش ) يرى أنه قد اتخذ الأرض و مآتيها سلما يصعد عليه
نحو ضمير الوجود الأعلى .
غير أنني وجدت الغزالي الأقرب الى جواهر الأمور و أسرارها من القديس
أغوطنيوس . و قد يكون سبب ذلك في الفرق الكائن بين ماورثه الأول من
النظريات العلمية العربية و اليونانية التي تقدمت زمانه وما ورثه الثاني من
علم اللاهوت الذى كان يشغل آباء الكنسية في القرنين الثاني و الثالث
للمسيح ، و أعني بالورثة ذلك الأمر الذي ينتقل مع الأيام من فكر الى فكر
مثلما تلازم بعض المزايا الجسدية مظاهر الشعوب من عصر الى عصر.
و للغزالي عند المستشرقين الغرب و علمائه منزلة رفيعة . و هم يضعونه مع ابن
سيناء و ابن رشد في المقام الأول بين فلاسفة الشرق . أما الروحيون بينهم
فيحسبونه أنبل و أسمى فكرة ظهرت في الاسلام .
و من الغرائب أنني شاهدت على جدران كنيسة في فلورانسا ( ايطاليا ) من بناء
الجيل الخامس عشر صورة الغزالي بين صور غيره من الفلاسفة و القديسيين و
اللاهوتين .
و لكن الأغرب من ذلك هو أن الغربيين يعرفون عن الغزالي أكثر مما يعرفه
الشرقيون . فهم يترجونه و يبحثون في تعاليمه و يدققون النظر في منازعه
الفلسفية و مراميه الصوفية . أما نحن الذين لم نزل نتكلم اللغة العربية و
نكتبها فقلما ذكرنا الغزالي أو تحدثنا عنه . نحن لم نزل مشغولين بالأصداف
كأن الأصداف هي كل ما يخرج من بحر الحياة الى شواطئالأيام و الليالي.

*****************:
المواكب./لجبران خليل جبران