ابن باديس وجهوده التربوية 5 Ezlb9t10
ابن باديس وجهوده التربوية 5 Ezlb9t10





 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخولدخول  
اشترك في القائمة البريدية ليصلك جديدنا :
آخر المواضيع
date2014-05-25, 2:29 pm
member
date2014-05-25, 12:55 pm
member
date2014-03-19, 10:44 pm
member
date2014-03-03, 10:03 pm
member
date2013-11-09, 10:39 pm
member
date2013-10-04, 4:33 pm
member
date2013-09-30, 6:49 am
member
date2013-09-21, 9:34 pm
member
date2013-09-21, 9:29 pm
member
date2013-09-21, 9:28 pm
member

ابن باديس وجهوده التربوية 5

Admin
مؤسس المنتدى
Admin

السٌّمعَة : 0
ذكر
نقاط : 22423
ابن باديس وجهوده التربوية 5 Empty
http://omaarab.7olm.org
ابن باديس وجهوده التربوية 5 Clock13 2012-02-10, 6:26 pm

تــــــــــــــــــــــاـبع

الفصل الثالث
مجالات ومميزات مدرسة ابن باديس التربوية
المبحث الأول :
الوسائل المادية للتربية عند ابن باديس
تمويل التعليم:
عرفنا في ما تقدم أن السلطات الاستعمارية ضيّقت على التعليم العربي والإسلامي تضييقًا شديدًا، بمصادرتها للأوقاف الإسلامية التي كانت تموّل هذا القطاع، وعليه فإن تمويل المشاريع التعليمية في تلك الفترة كان ذاتيًا، يؤمّنه الأهالي.
ولمعرفة طبقات الممولين، نأخذ مثالاً على ذلك حالة التعليم الحر في مدينة قسنطينة لسنة 1934م، على أساس أن هذه المدينة تعدّ النواة الرئيسة لتلك المشاريع.
ومن خلال ما كتبته الصحافة الإصلاحية، يتبين أن طبقات الممولين تتشكل من العناصر الرئيسة التالية:
1 ـ التجار: منهم مَن يكفل لطلبة العلم المأوى والغذاء، وهم أصحاب الأملاك وأصحاب المطاعم والمخابز، وتغطي مساهماتهم حوالي 17% من إجمالي دخل صندوق الطلبة.
2 ـ الفلاحون: الذين يساهمون بكميات من محاصيل غاباتهم وحقولهم مثل التمور وغيرها، وتمثل مساهماتهم حوالي 11% من دخل صندوق الطلبة.
3 ـ عامة الأهالي: يساهم الميسورون منهم حسب ما تسمح به ظروفهم المادية.. ويمثل ما يقدمه الأهالي لتمويل التعليم حوالي 61% من إجمالي المساهمات.
4 ـ مشروع سبل الخيرات: الذي أسس سنة 999هـ - 1590م، وهو من قبيل المشاريع الخيرية العامة، كإصلاح الطرقات، وتشييد المساجد والمعاهد، وشراء الكتب لإيقافها على طلبة العلم.
هذا باختصار نموذج عن تمويل مشاريع التربيــة والتعليــم في عهــد ابن باديس.
ويلاحظ أن استقلالية التعليم العربي الحر في عصر ابن باديس، أكسبته قبولاً وتعاطفًا لدى الأهالي، الذين دفعوا بأفلاذ أكبادهم إلى تلك المدارس، لإدراكهم أنها أنسب مكان لتنشئة أبنائهم التنشئة الإسلامية الصحيحة.
المطلب الأول: المدارس والمعاهد
إن من أهم عوامل تمايز وتفاضل الأمم والشعوب، مدى اهتمامها بالتربية والتعليم، وحظها من ذلك، ونجاحها في إيصال العلم إلى العقول، وتوجيهها التوجيه النافع المثمر.
وتعتبر المؤسسات التعليمية على اختلاف مراحلها وأشكالها، ذات تأثير بالغ في بناء الفرد والمجتمع، فمن خلالها يتشرّب المبادئ والقيم التي يؤمن بها، والسلوك والأخلاق التي يتعامل بها. ولعظم الدور الذي تقوم به هذه المؤسسات، أولاها الإمام عبد الحميد بن باديس عناية خاصة، سواء في وسائلها المادية أو المعنوية.
لقد سعت فرنسا جاهدة على أن تكون فرصة التعليم الوحيدة المتاحة للجزائريين، تنحصر في الالتحاق بالمدارس الحكومية، وأن تضيّق بشدة على ما تبقى من المدارس العربية الحرة، حتى تصير اللغة الفرنسية لغـــة التعليــم والثقافــة، ولغة الآباء والأمهات. هــذا كله جعــل ابن باديس ورفاقه يهتمون كثيرًا بالمدرسة، باعتبارها الأداة الملائمة والفعّالة لانتشال الأمة من وهدة الجهل والتبعية.
ومن المدارس والمعاهد التي أسسها ابن باديس أو ساهم في نشاطها، نذكر ما يلي:
- مدرسة جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة، التي كانت بمثابة النواة الرئيسة للمشروع التربوي في منطقة الشرق الجزائري.. أسسها الشيخ عبد الحميد بن باديس وجماعة من الفضلاء المتصلين به، من بينهم السيدان: العربي وعمر بن غسّولة، وكان محل هذه المدرسة فوق مسجد (سيدي بومعزة)، ثم نقلت إلى مبنى الجمعية الخيرية بقسنطينة، التي تأسست في 1917، ثم أصبحت في سنة 1930 مدرسة جمعية التربية والتعليم الإسلامية، وقد أولاها ابن باديس عناية خاصة، في اختيار معلميها، ورعاية طلبتها، وتقديم مختلف ألوان العون المادي والمعنوي لهم.
- دار الحديث: افتتحها الشيخ عبد الحميد بن باديس بمدينة (تلمسان)، في خريف سنة 1356هـ- 1937م.. وتعتبر دار الحديث من أكبر المدارس التابعة للجمعية في الغرب الجزائري، وكان فتحها تحديًا لسياسة المستعمر، التي تحول دون فتح المدارس الحرة، وتدريس العلماء بها.
- المدرسة الموفقيّة: في مدينة (سانطارنو) قرب (سكيكدة)، أسسها الشاب الأديب السيد محمد بن الموفق، للتعليم والتهذيب، بتأييد فضلاء البلد، وقد زارها الشيخ ابن باديس في صيف 1348هـ- 1929م، وألقى فيها دروسًا في التفسير، ولزوم التعليم، ورفع الأمية.
- مدرسة الإخاء: أسست في سنة 1921م، بمدينة (بسكرة)، التي تبعد حوالي ثلاثمائة ميلاً جنوب الجزائر العاصمة.
وكانت تسميتها بمدرسة الإخاء تعبيرًا عن روح الأخوة والتضامن، في مواجهة المخاطر المحدقة بالأمة في تلك الآونة، وانتصب للتدريس بها جماعة من علماء البلدة.
إن المدارس التي ساهم ابن باديس في إنشائها كثيرة، يضيق المقام بسردها، وقد اكتفينا بما اشتهر منها.
وكانت دروس ابن باديس في المدارس التي زارها، تتمحور في دعوة الناس للرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم، والأخذ بأسباب الحياة.
يقول ابن باديس عن ذلك: (ما كنتُ أدعوهم في جميع مجالسي إلا لتوحيد الله، والتفقه في الدين، والرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله، ورفع الأمية، والجدّ في أسباب الحياة من فلاحة وتجارة وصناعة، وإلى اعتبار الأخوة الإسلامية فوق كل مذهب وطريقة وجنس وبلد، وإلى حسن المعاملة، والبُعد عن الظلم والخيانة مع المسلم وغير المسلم).
المطلب الثاني: المساجد والزوايا
كان للمسجد في صدر الإسلام وظائف جليلة، لم تفارقه إلا حين فرّط المسلمون في رسالته الحضارية. فقد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم، منطلقًا للغزوات والسرايا وتبليغ دعوة الحق إلى الأمم، وإخراج البشر من عبادة الأوثان إلى عبادة الله الواحد الديان.
وكان المسجد مركزًا تربويًا يُرَبَّى فيه الناس على فضائل الأخلاق، وكريم الشمائل، ومعرفة حقوقهم وواجباتهم في المجتمع المسلم. وبقي المسجد على هذه الحال إلى أن ضعفت الأمة وتفرّقت، وطغت عليها الأغراض الدنيوية، فانقلبت بعض حلقاته إلى موارد للرزق، ومعاقل للتعصب المذهبي والطائفي والشخصي.
يقول ابن باديس حول الرسالة الرائدة للمسجد في مجال التعليم: (المسجد والتعليم صنوان في الإسلام، من يوم ظهر الإسلام، فما بنى النبي صلى الله عليه و سلم يوم استقر في دار الإسلام بيته حتى بنى المسجد، ولما بنى المسجد كان يقيم الصلاة فيه، ويجلس لتعليم أصحابه، فارتبط المسجد بالتعليم كارتباطه بالصلاة، فكما لا مسجد بدون صلاة، كذلك لا مسجد بدون تعليم، وحاجة الإسلام إليه كحاجته إلى الصلاة).
وإذا كان التعليم في المدارس والكتاتيب من نصيب الصبيان والشباب فإن للعامة نصيبًا وافرًا من التعليم في المساجد.
ويُبْرز الشيخ ابن باديس الدور الإيجابي الذي تؤديه المساجد في تعليم وتثقيف العامة، فيقول: (إذا كانت المساجد معمورة بدروس العلم، فإن العامة التي تنتاب تلك المساجد تكون من العلم على حظ وافر، وتتكون منها طبقة مثقفة الفكر، صحيحة العقيدة، بصيرة بالدين، فتكمل هي في نفوسها، ولا تهمل -وقد عرفت العلم وذاقت حلاوته- تعليم أبنائها، وهكذا ينتشر التعليم في الأمة، ويكثر طلابه من أبنائها... أما إذا خلت المساجد من الدروس، كما هو حالنا اليوم -في الغالب- فإن العامة تعمى عن العلم والدين، وتنقطع علاقتها به، وتبرد حرارة شوقها إليه... وتُمسي والدين فيها غريب).
والمتتبع لتاريخ أسلافنا -رحمهم الله- يدرك الأهمية التي أعطيت لهذا النوع من التعليم، فقد بذلوا الأموال وحبسوا الأحباس، لضمان استمرار المسجد في تأدية رسالته التعليمية والتربوية.
وما انتهى المسلمون اليوم إلى ما هم عليه من انحراف في عقائدهم وسلوكهم، وجمود في فكرهم، إنما سببه هو انعدام التعليم الديني في المساجد، التي أصبحت مؤسسات رسمية خاضعة لتوجيهات الساسة.. ولن يرجى لهم شيء من السعادة الإسلامية، إلا إذا أقبلوا على التعليم الديني، فأقاموه في مساجدهم كما يقيمون الصلاة وكما كان النبي صلى الله عليه و سلم يفعل من إقامته بمسجده).
وحينما بدأ المسجد -على عهد ابن باديس- يقترب من مكانته الطبيعية، أصبح من أعظم المؤثرات التربوية في نفوس العامة والناشئين، وفيه صدع الجزائريون بأنهم ليسوا فرنسيين كما كانت تدّعي فرنسا، وأن بلادهم ليست فرنسا ولا يمكن أن تكون كذلك ولو أرادت، وأثبتوا بأنهم أمة لها دينها ولغتها وحضارتها المتميزة.
- أهم المساجد التي كان ينشط بها الشيخ عبد الحميد بن باديس:
1 ـ المسجد الأخضر بقسنطينة:
أحد الجوامع الثلاثة الجُمَعِيَّة بعد الاحتلال الفرنسي بقسنطينة، أسسه حسن بك بن حسين سنة 1156هـ - 1743م، للصلاة والتعليم كما هو منقوش فوق مدخل بيت الصلاة ما نصّه: (أمر بتأسيس هذا المسجد العظيم، وتشييد بنائه للصلاة والتسبيح والتعليم... حسين باي، أدام الله أيامه، وكان تمام بنائه أواخر شهر شعبان سنة ستة وخمسين ومائة وألف).
وقد اتخذ ابن باديس من المسجد الأخضر مدرسة لتكوين القادة وإعداد النخبة، التي حملت مشعل الإصلاح، وأخذت بيد الأمة تعلمها دينها، وتصحح عقائدها، وتوحد صفوفها ضد المستعمر الغاشم.
2 ـ الجامع الكبير بقسنطينة: وهو المسجد الذي اتخذه الشيخ ابن باديس لإلقاء دروسه.. فبعد إتمام دراسته بجامع الزيتونة، ابتدأ حلقاته العلمية فيه بدراسة كتاب الشفاء للقاضي عياض، حتى عمد مفتي قسنطينة السيد ابن الموهوب إلى منعه، فانتقل الشيخ حينها إلى المسجد الأخضر.
3 ـ الجامع الجديد بباب البحر بالعاصمة، المجاور للجامع الكبير، أنشئ على حساب خزينة مشروع سبل الخيرات، سنة 1070هـ - 1660م على عهد خليل أغا.
وكان الأستاذ الطيب العقبي يلقي دروسه الدينية بهذا المسجد فترة بقائه ممثلاً لجمعية العلماء في العاصمة.
والحقيقة أن المساجد التي تحت رعاية جمعية العلماء، والتي كان يؤمها الشيخ ابن باديس ورفاقـــه، كثيرة لا تحصـى، وقــد اكتفينـــا بذكــر ما اشتهر منها خشية الإطالة.
ب ـ الزوايا: جميع زاوية، والزاوية في الأصل هي ركن البناء أو الدار، حتى أصبحت تطلق على المسجد الصغير أو المصلى.
وضمن دعوته الإصلاحية الشاملة، كان ابن باديس يعرض أفكاره على أصحابها، ويدعوهم للوقوف إلى جانب حركته. كانت هذه اللفتة من ابن باديس، موفقة إلى حدكبير، فقد انضم إلى صفوف الجمعية الكثير من شيوخ تلك الزوايا، نذكر منهم على سبيل المثال: الشيخ عبد العزيز ابن الهاشمي، في واد سوف، الذي أبلى بلاءً حسنًا في مناصرة الجمعية، وكانت زاويته معقلاً للنشاط الإصلاحي في تلك الفترة.
المطلب الثالث: الصحافة
استعان ابن باديس ورفاقه بأدوات العصر لنشر دعوتهم، فإلى جانب الدروس والمحاضرات والخُطَب، اتخذوا من الصحافة منبرًا آخر لبيان المفاهيم الإسلامية الصحيحة.
وقبل أن نتطرق إلى تفاصيل ذلك، نلقي أولاً نظرة حول اتجاهات الصحافة قبل الحرب العالمية الأولى، وقبل ظهور الصحافة الإصلاحية في الجزائر.
1 ـ الصحافة قبل ظهور دعوة ابن باديس:
يصعب تعيين تاريخ محدّد لظهور الصحافة في الجزائر، إلا أن المؤكد أنها رافقت دخول الاستعمار، فقد استعملها الفرنسيون المعتدون لتبليغ القوانين والتشريعات والأوامر الإدارية إلى الشعب الجزائري، كما عنيت تلك الصحافة بإظهار سمعة فرنسا وما لها من الفضل على العرب والمسلمين من جهة، وتشويه رجال المقاومة الإسلامية الذين رفعوا السلاح في وجه الاستعمار من جهة أخرى.
وظلت الصحافة الاستعمارية على هذا الخط فترة طويلة، إلى أن ظهر بعض الكتّاب الجزائريين الذين كتبوا حول الأوضاع الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وقد كانت في أغلبها ترمي إلى خدمة الوجود الفرنسي في الجزائر، أكثر مما ترمي إلى إفادة الشعب الجزائري، ذلك لأن الطابع الفكري العام لما يكتب في تلك الصحافة كان موجّهًا توجيهًا مباشرًا من طرف الاستعمار.. ولا نكاد نصل إلى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، حتى ظهرت بعض الصحف التي تندد بسياسة اليهود والمستعمرين تجاه الأهالي.
فقد ظهرت صحيفة (الحق) في مدينة (عنّابة) سنة 1893م بالفرنسية، ثم في سنة 1894م بالعربية، ثم جريدة المغرب سنة 1903م، وكانت تسعى إلى التأليف بين الأهالي وبين الأمة الفرنسية، وكــان جُــل الكتّاب في هذه الصحيفــة جــزائـريين، منهــم الشيــخ عبد القادر المجاوي، والشيخ عبد الحليم بن سماية، وغيرهم من المثقفين الذين عُرفوا باتجاههم الإصلاحي.
بعد ذلك ظهرت طلائع الصحافة الإسلامية الإصلاحية، مثل (الفاروق) التي أصدرها الأستاذ عمر بن قدور، و(ذو الفقار) التي أصدرها الأستاذ عمر راسم سنة 1913م.
فاهتمت بالإصلاح الديني والوضع الاجتماعي، وأحوال الشباب، والتعليم واللغة العربية.
هذا باختصار هو الاتجاه العام للصحافة في تلك الفترة.
بداية نشاط ابن باديس الصحفي:
إن ما جرّته الحرب العالمية الأولى من ويلات على الأمة الجزائرية، ساهم في إيجاد يقظة عامة في معظم طبقات الشعب، وظهور نوع من النضج الفكري والإرادة القوية لتغيير الأوضاع المتردية التي آلت إليها البلاد.
وقد أحسّ ابن باديس بعد سنوات من الجهد المتواصل في التعليم المسجدي والخطب، بضرورة توسيع دائرة دعوته، لتشمل عددًا كبيرًا من الشعب، فأقدم على استخدام القلم مع اللسان، مستعينًا بأدوات العصر لإبلاغ دعوته، وفي مقدمتها الصحافة التي خصص للجانب التربوي فيها نصيبًا وافرًا.
شارك ابن باديس في تأسيس جريدة (النجاح)، التي كانت في بداية أمرها إصلاحية، ثم انحرفت فتركها ليستقل بصحافته.. في ذلك الحين ظهرت بعض الصحف الوطنية والإصلاحية، منها جريدة (الصدّيق)، التي رأس تحريرها السيد عمر بن قدور، ثم أصدر الأمير خالد جريدته (الإقدام) بين (1920-1923م).
وفي سنة 1925م، شهدت الصحافة الإصلاحية انبعاثًا جديدًا تحت زعامة الشيخ عبد الحميد بن باديس، فتوحّدت الأهواء بعد أن كانت مشتتة، وتضافرت الجهود التي كانت مبعثرة، وتناسقت الأصوات المنادية بالإصلاح الديني والاجتماعي، والرجوع بالأمة إلى منابع الإسلام الأصيلة، كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم، فدبّت الحركة من جديد في تلك الشجــرة الكبيــرة، وحرّكت البراعـــم أغصانهــا، فاخضـرت وأورقت لما سقاها الغيث المنحدر من مقالات رجال الإصلاح من: المنتقد، والشهاب، والإصلاح، والدفاع...
وهكذا اقتحم ابن باديس ميدان الصحافة بنفس العزم والجدّ الذي عُرف به، مفتتحًا العدد الأول من جريدة (المنتقد) بقوله: (باسم الله، ثم باسم الحق والوطن، ندخل عالم الصحافة العظيم، شاعرين بعظمة المسؤولية التي نتحملها فيه، مستسهلين كل صعب في سبيل الغاية التي نحن إليها ساعون، والمبدأ الذي نحن عليه عاملون...).
وانبرت للكتابة في (المنتقد) أقلام كانت ترسل شُواظًا من نارٍ على الباطل والمبطلين، ثم عطّل (المنتقد)، فخلفه (الشهاب) (الجريدة). ثم أُسست جريدة (الإصلاح) ببسكرة، فكان اسمها أخفّ وقعًا، وإن كانت مقالاتها أسدّ مرمىً وأشد لذعًا.
وكانت مجلة (الشهاب) هي لسان حال الحركة الإصلاحية، التي قرّبت بين الأمة وبين قرآنها... وأزالت ما بينهما من جفاء).
ومنذ أن ظهرت الشهاب سنة 1925م، عمد ابن باديس إلى توسيع دائرة نشاطه التعليمي ليشمل أكبر عدد من الشعب، فخصص افتتاحياتها لنشر مختارات من دروسه التفسيرية والحديثية، تحت عنوان: (مجالس التذكير).
الصحافة وسيلة تربية وتعليم:
كانت الصحافة الإصلاحية في زمن ابن باديس في طليعة وسائل التربية والتعليم، فقد ساهمت في نشر الفضيلة، ومحاربة الرذيلة، وتبصير العقول، يقول ابن باديس: (وسيكون هذا الباب من المجلة مجالاً لفنون من التذكير، جعلنا الله والمؤمنين من أهل الذكرى، ونفعنا بها دنيا وأخرى).
ويوضّح أنواع ذلك التذكير، فيقول: (ننشر في هذا الباب من مجلة (الشهاب) ما فيه تبصرة للعقول أو تهذيب للنفوس، من تفسير آية كريمة أو حديث شريف، أو توضيــح لمسألــة في أصــول العقائد أو أصــول الأعمال، معتضدين بأنظار أئمة السلف الذين لا يُرتاب في رسوخ علمهم وكمال إيمانهم، وأئمة الخلف الذين درجوا على هديهم، في نمط وسـط بين الاستقصـــاء والتقصيـــر). فكــانت الصحـــافـــــة مــن أمضـى الأسلحــة التي حاربت بهــا الحركــة الإصلاحيــة خصومهـا، ونشـرت بها أفكارها وتعاليمها.
وقد شهدت الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى صراعًا مريرًا بين رجال الإصلاح من جهة، وأصحاب الطرق الصوفية المنحرفة من جهة أخرى
المبحث الثاني: ميزات مدرسة ابن باديس التربوية
المطلب الأول: مصادر التربية عند ابن باديس
قبل تحديد المصادر التي اعتمد عليها الشيخ عبد الحميد بن باديس في عمليته التربوية، نلقي أولاً نظرة سريعة على فلسفته التربوية.
إذا كانت العملية التربوية تهتم بتزويد الفرد بمجموعة من المعارف والخبرات، التي تساعده على التكيف مع تغيرات البيئة المادية والاجتماعية، أو بعبارة أخرى تزويد الفرد بخلاصة التراث والحضارة السائدة في المجتمع في وقت وجيز، فإن فلسفة التربية تقدم له المقاييس والمعايير التي يختار على أساسها تلك المعارف والخبرات.
أما فلسفة التربية الإسلامية، فهي مستوحاة من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم، اللذين رسما للمسلم منهج سلوكه في الدنيا، وعلاقته بما حوله في عالميْ الغيب والشهادة.
والتربية عند ابن باديس هي التربية الإسلامية، التي تُعتبر الطريق السليم لإيجاد المجتمع الإسلامي، وإنقاذ الشعب من وهدة الذوبان في الحضارة الغربية المادية، وعليه فإن المصادر التي اعتمد عليهـــا الشيــخ عبد الحميد بن باديس في مسيرته التربوية، هي نفسها مصادر التربية الإسلامية: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم، وذلك مصداقاً لقوله صلى الله عليه و سلم: (تركتُ فيكم شيئين، ما إن تمسكتم بهما، لا تضلوا بعدي أبدًا: كتاب الله وسنتي ).
إن اعتبــار كتاب الله تعالى وسنة رسـوله صلى الله عليه و سلم مصــدران للتربيــة عند ابن باديس، له ما يدعّمه في تاريخ هذا الرجل، فقد قضى شطر عمره شارحًا لكتاب الله تعالى في حلقات استمرت ربع قرن، واثقًا بأن هذا الكتاب الذي سعد به المسلمون الأوائل، جدير بأن يوقظ هذا الشعب ويسعده إذا حسنت النوايا وحشدت الهمم.
كان -رحمه الله- يفتتح مجلة (الشهاب) بنماذج من تفسيره للقرآن الكريم، تحت عنوان: (مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير). ويعلل ابن باديس تركيزه على القرآن الكريم في تربية الأجيال قائلاً: (فإننا نربي -والحمد لله- تلامذتنا على القرآن، ونوجه نفوسهم إلى القرآن من أول يوم وفي كل يوم، وغايتنا التي ستتحقق أن يكوِّن القرآن منهم رجالاً كرجال سلفهم، وعلى هؤلاء الرجال الربانيين تعلّق هذه الأمة آمالها، وفي سبيل تكوينهم تلتقي جهودنا وجهودهم).
وأما المصدر الثاني الذي استقى منه الإمام ابن باديس منهجه التربوي فهو: الصحيح من سنة النبي صلى الله عليه و سلم.
فقد اعتنى بشرح موطأ إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله، وخصص جزءًا من (الشهاب) لنشر مقتطفات من ذلك الشرح، تحت عنوان: (مجالس التذكير من حديث البشير النذير).
هذه باختصار أهم المصادر التي اعتمد عليها الشيـــخ عبــد الحميـد ابن باديس رحمه الله في مسيرته التربوية.
المطلب الثاني: أساليب التربية أو الوسائل المعنوية للتربية عند ابن باديس
الأساليب جمع أسلوب، وهو الطريق، ويطلق على الفن من القول أو العمل.. وفي التربية، تعني الطرق التي ينتهجها المربون مع متعلميهم. وقد استخدم الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، أساليب ووسائل متنوعة لإنجاح جهوده التربوية، استوحاها من مصادر الإسلام الأصيلة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم، نذكر أهمها في ما يلي:
1 ـ التربية بالقدوة:
القدوة هي الأسوة، يُقال فلان قِدْوة يُقتدى به، وقد يضم فيقال: لي بك (قُدوة) و(قدة)، والتلميذ في المدرسة يحتاج إلى نموذج عملي وقدوة يراها في كل مربّ من مربيه، ليوقن ويتحقق بأن ما يُطلب منه من السلوك والأخلاق هو أمر واقعي يمكن ممارسته، فهو يأخذ بالتقليد والمحاكاة أكثر مما يأخذ بالنصح والإرشاد، وعليه فإن إنجاح العملية التربوية يتوقف إلى حد كبير على وجود المربي، الذي يحقق بسلوكه وممارساته التربوية، المثال الصادق لأهداف المنهج التربوي، المراد إقامته وتحقيقه.
فقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه و سلم أن يقتدي بهَدْي مَن سبقه من الرسل، فقال: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده )(الأنعام:90).
وأمر الله المؤمنين بأن يقتـــدوا برسولـه صلى الله عليه و سلم، فقـــــال: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر )(الأحزاب:21).
وخاطب اللهُ عز وجل رسولهَ والمؤمنين جميعًا بقوله: (لقد كان لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ) (الممتحنة:4).
هكذا ارتبط التعليم في الإسلام من البداية بالقدوة الحسنة، فكان الصحابة -رضوان الله عليهم- يقتدون بسلوك الرسول صلى الله عليه و سلم، وكان هو يَطلب منهم محاكاته والأخذ عنه قائلاً: (صلوا كما رأيتموني أصلي ) (رواه البخاري من حديث مالك بن الـحُوَيْرِث).. (يا أيها الناس خذوا مناسككم) (رواه مسلم والنسائي واللفظ له من حديث جابر).
وقد أسهبنا في ذكر الأمثلة العملية للتربية بالقدوة عند ابن باديس، عند كلامنا عن سماته الشخصية، بما يغني عن إعادتها في هذا المبحث.
2 ـ التربية بالوعظ والتذكير:
حقيقة التذكير عند ابن باديس أن تقول لغيرك قولاً يذكر به ما كان جاهلاً أو ناسيًا أو عنه غافلاً، وقد يقوم الفعل والسمت والهدى مقام القول، فيسمى تذكيرًا مجازًا وتوسعًا.
وحاجة العباد إلى هذا التذكير، أعظم ما يحتاجون إليه وأشرفه.
وكان النبي صلى الله عليه و سلم على سنّة إخوانه من الأنبياء والمرسلين -عليهم الصلاة والسلام- في القيام بتذكير العباد، متمثلاً أمر ربّه تعالى له: (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر )(الغاشية:21).
وقوله تعالى: (فذكر إن نفعت الذكرى )(الأعلى:9).
وقوله تعالى: (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد )(ق:45).
وأما الوعظ والموعظة، فهو الكلام المليّن للقلب بما فيه من ترغيب وترهيب، فيحمل السامع -إذا اتعظ وقبل الوعـظ وأثّـر فيـــه- على فعـــل ما أمر به، وترك ما نهي عنه.
والموعظة الحسنة عند ابن باديس، هي التي ترقّق القلوب، لتحملها على الامتثال لما فيه خيري الدنيا والآخرة، وإنما تكون كذلك إذا حسن لفظها بوضوح دلالته على معناها، وحسن معناها بعظيم وقعه في النفوس، فَعَذُبَتْ في الأسماع، واستقرت في القلوب، وبلغت مبلغها من دواخل النفس البشرية، فأثارت الرغبة والرهبة، وبعثت الرجاء والخـوف بلا تقنيط من رحمة الله، ولا تأمين من مكره، وانبعثت عن إيمان ويقين، وتأدت بحماس وتأثر، فتلقتها النفس من النفس، وتلقاها القلب من القلب.
وعلى الرغم من أن ابن باديس كان خطيبًا واعظًا مفوهًا بليغ الكلام، إلا أنه اهتم بالتكوين الأساس والبناء التربوي أكثر من الوعظ، ذلك لأن الوعظ في حقيقته يجدي في مجتمع صالح قد تحدث فيه أخطاء، فيقوم الوعّاظ عند ذلك بتنبيه الخاطئين بإيقاظ وتحريك تقوى الله في نفوسهم.
لكن الأمــر يختلف بالنسبـــة إلى حالــة المجتمـــع الجزائـــري في أيـــام ابن باديس، حيث لم يبق في نفوس عامة الناس إلا إسلام طرقيّ قبوريّ، من تبعه فَقَدَ كلّ حيوية وفاعلية، ومن أعرض عنه ارتمى في أحضان الثقافة الفرنسية اللادينية.
لذلك فإن ابن باديس لم يركّز كثيرًا على الوعظ وإن لم يهمله، بل وجّه جُلّ اهتمامه للتربية والتعليم، وكان يعيب على خطباء عصره الذين لم يدركوا حقيقة الوعظ ولا التذكيــر، وكانـت أغلب خطبهــم لا تناسب الواقع ولا تتماشى مع النوازل التي ألـمّت بالأمة، فأثناء شرحه لقول الله تبارك وتعالى: (وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة )(الفرقان:32)، وتطرّقه إلى محاسن هذه الشريعة، وأنها نزلت بالتدريج المناسب حسب الوقائع، قال: (انظر إلى هذه الحكمة في هذا التنزيل، كيف نزلت آياته على حسب الوقائع ? أليس في هذا قــدوة صالحة لأئمة الجُمع وخطبائها في توخّيهم بخطبهم الوقائع النازلة، وتطبيقهم خطبهم على مقتضى الحال ? بلى والله.. ولقد كانت الخطب النبوية والخطب السلفية كلها على هذا المنوال، تشتمل مع الوعظ والتذكير على ما يقتضيه الحال، وأما هذه الخطب المحفوظة المتلوّة على الأحقاب والأجيال، فما هي إلا مظهر من مظاهر قصورنا وجمودنا، فإلى الله المشتكى، وبه المستعان).
3 ـ التشجيع على التحصيل النفسي، وتنمية القدرات الذاتية للطالب:
لا شك أن الدروس والبرامج المدرسية إنما تُحصّل فيها قواعد بعض العلوم، وتبقى فنون كثيرة من فنون العلم يحصّلها الطالب ويصل إليها عن طريق البحث والمطالعة بنفسه أو مع زملائه.
(فالتحصيل الدرسي يؤدي إلى فهم قواعد العلم وتطبيقها حتى تحصل ملكة استعمالها، وأما توسيع دائرة الفهم والاطلاع فإنما يتوصل إليها الطالب بنفسه، بمطالعته للكتب).
ويحث ابن باديس الطلبة ومعلميهم على عدم الاكتفاء بالبرامج المدرسية وحدها، قائلاً: (فعلى الطلبة والمتولين أمر الطلبة، أن يسيروا على خطة التحصيل الدرسي والتحصيل النفسي، ليقتصدوا في الوقت ويتسعوا في العلم، ويوسّعوا نطاق التفكير).
كما ركّز ابن باديس في خطته التربوية على تنمية القدرات العقلية للطلبة، وحثهم على إعمال عقولهم في ما يدرسون ويعالجون من مسائل، ويفكّروا تفكيرًا صحيحًا مستقلاً عن تفكير غيرهم مع الاستئناس به، موضحًا ذلك بقوله: (إذا كان التفكير لازمًا للإنسان في جميع شؤونه وكل ما يتصل به إدراكه، فهو لطلاب العلم ألزم من كل إنسان، فعلى الطالب أن يفكر فيما يفهم من المسائل وفيما ينظر من الأدلة، تفكيرًا صحيحًا مستقلاً عن تفكير غيره، وإنما يعرف تفكير غيره ليستعين به، ثم لابد له من استعمالِهِ فِكْرَهُ هو بنفسه).
4 ـ التربية بتفريغ الطاقة وملء الفراغ بما ينفع:
إن استغلال طاقة الشباب، وتوجيهها وجهتها الصحيحة، بطريقة تستهوي ميولهم ورغباتهم وتبعث فيهم المرح والحيوية، له ما يدعمه في سنة المصطفى صلى الله عليه و سلم، فقد أرشد صلى الله عليه و سلم أصحابه إلى بعض تلك الطرق فقال: (علِّمُوا أبناءكم السباحةَ والرمايةَ وركوبَ الخيل ).. وكان صلى الله عليه و سلم يسابق بين خيل الصحابة، ليعرفوا أن ذلك ليس من العبث، بل من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو، والانتفاع بها عند الحاجة.
وأكثر من ذلك، فقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها، أنها رأت رسول الله صلى الله عليه و سلم يومًا على باب حجرتها والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله صلى الله عليه و سلم يسترها بردائه تنظر إلى لعبهم.
والحقيقة أن الطاقة المتولدة لدى الإنسان عمومًا والشباب خصوصًا، ينبغي إطلاقها وتوجيهها نحو عمل إيجابي بنّاء، وأن كبحها وتخزينها من غير مبرّر، مخل بالتوازن الجسمي والنفسي للإنسان.
وقد اعتنت المدرسة الحديثة بهذا الجانب، واستحدثت ما يُسمى بالنشاط المدرسي، الذي أصبح جزءًا من المناهج المعمول بها في أغلب المؤسسات التعليمية.
وقد أدرك الإمام ابن باديس رحمه الله، الأهمية البالغة لعملية توجيه طاقة الشباب المخزنة، وتفريغها في ما يعود عليهم بالمصلحة لحمايتهم من الانحراف والشذوذ، فكان ينهى متعلّميه عن تبديد أوقاتهم وجهودهم فيما لا فائدة فيه، ويرشدهم إلى الترويح عن أنفسهم بما يطيب لهم من المباحات والمستحبات، كالسباحة، والخروج إلى الطبيعة، والاستمتاع في أحضانها، والتفكر في مبدعها.
كان ابن باديس مربيًّا محنّكًا، له حسّ مُرْهف، وعبقرية متدفقة في فهم نفوس متعلّميه، ومعرفة ميولها وحاجتها إلى ما يبعث المرح والحيوية والتفاؤل.. يقول عن نفسه: (لم تفارقْني مهنة المعلم، فكنتُ أجدني عن غير قصد أقرر نكتة في بيت من الشعر، أو عِبرة في حادث من التاريخ)، مخافة السآمة على سامعيه.
والحقيقة أن ابن باديس رحمه الله، لم يقتصر على ما ذكرنا من الأساليب، فقد كان يربّي بالقصة لما لها من تأثير ساحر على القلوب، ويربّي بالعادة ويستخدمها وسيلة من وسائل التربية، بزرع الخصال الحميدة في نفوس الناشئة، وجعلها فيهم متأصلة يزاولونها بغير جهد ولا عياء.
وقد كان لمدرسة ابن باديس التربوية من الخصائص ما جعلها محل اهتمام الدارسين، ذلك ما سنتطرق إليه في المطلب القادم إن شاء الله.
المطلب الثالث: خصائص التربية عند ابن باديس
إذا جاز لنا تلخيص خصائص التربية عند ابن باديس، فإنها باختصار تربية شاملة متكاملة. وإذا عرفنا أن التربية عند ابن باديس مستوحاة من مصادر الإسلام الأصيلة، أدركنا أنها شاملة لكل جوانب الحياة في الدنيا والآخرة.
إن التربية عند ابن باديس لا تقتصر على جانب واحد من جوانب شخصية المتعلم، فهي تربية للجسم والروح والعقل معًا.
يقول رحمه الله: (الإنسان مأمور بالمحافظة على عقله وخلقه وبدنه، ودفع المضارّ عنها، فيثقّف عقله بالعلم، ويقوِّم أخلاقه بالسلوك النبوي، ويقوّي بدنه بتنظيم الغذاء، وتوقّي الأذى، والتريّض على العمل.
والتربية عند ابن باديس لا تقتصر على مكان دون آخر، فهي في المدرسة والمسجد والنادي، وحتى في الشارع والسوق، وفي ما يلي نذكر بعض تلك الخصائص:
1 ـ تربية روحية:
يرى ابن باديس أن المخاطَب من الإنسان هو نفسه، وأن ما يظهره الجسد من تصرفات لا يعدو أن يكون انعكاسًا لما تضمره تلك النفس، التي لا صلاح للإنسان إلا بصلاحها: (قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها )(الشمس:9-10).. لذلك ركّز ابن باديس على تطهير الروح وتنزيهها عن مساوئ الأخلاق، وتحليتها بمكارمها، لتسمو بصاحبها نحو الكمال الإنساني، ذلك لأن الإنسان (مهيأ للكمال بما فيه من الجزء النوراني العلوي وهو روحه، ومعرّض للسقوط والنقصان بما فيه من اختلاط عناصر جزئه الأرضي الظلماني وهو جسده، ولا يخلص من كدرات جثمانه، ولا ينجو من أسباب نقصانه، إلا بعبادة ربه، التي بها صفاء عقله وزكاء نفسه، وطهارة بدنه في ظاهره وباطنه).
2 ـ تربية جسمية:
لم يفصل ابن باديس بين هذا الجانب وغيره من جوانب التربية، فقد أولى اهتمامًا بالغًا للتربية الجسدية، التي لا تقل أهمية عن التربية الروحية، ذلك أن كثيرًا من الأعمال تتوقّف على سلامة الأبدان وقوتهـــا، فضعيف الجســـم يقـل أداؤه العقـلي والاجتمــاعي، وبالتالي لا يكون عنصرًا فعّالاً في مجتمعه.
فالرياضة البدنية والوجبات الغذائية، لها دور كبير في الحفاظ على سلامة الأبدان وصحّتها، يقول ابن باديس عند تفسيره لقول الله تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا إني بما تعملون عليم )(المؤمنون:51):
(تتوقّف الأعمال على سلامة الأبدان، فكانت المحافظة على الأبدان من الواجبات، ولهذا قدّم الأمر بالأكل على الأمر بالعمل، فليس من الإسلام تحريم الطيبات التي أحلها الله، كما حرّم غلاة المتصوفة اللحم.. وليس من الإسلام تضعيف الأبدان وتعذيبها، كما يفعل متصوفة الهنادك ومــن قلّــدهم من المنتسبين إلى الإســـلام.. والميزان العـدل فــي ذلك، هو ما كان عليه النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه رضي الله عنهم.
وفي تقديم الأكل من الطيبات على العمل الصالح، تنبيه على أنه هو الذي يثمرها، لأن الغذاء الطيب يصلح عليه القلب والبدن، فتصلح الأعمال، كما أن الغذاء الخبيث يفسد به القلب والبدن، فتفسد الأعمال).
3 ـ تربية سلوكية عملية:
كمــا ذكــرنا عند حديثنا عن القـــدوة في التربيــة، فإن ابن باديس لم يكتف في مسيرته التربوية بالأقوال دون الأفعال، لأن من تمام كمال المسلم أن تتطابق أقواله مع أفعاله.
لذا حرص أن يكون من تلاميذه ومريديه رجـــالاً عمليين، يطبّقــون ما يتعلمونه، فيعبدون الله على علم وبصيرة، فكان يحثهم على أن يمثّلوا الأخلاق الإسلامية الفاضلة بين أقوامهم -إذا رجعوا إليهم- فيحبّبوا الناس في العلم، ويكونوا لهم قدوة فيه وفي العمل به، وكان رحمه الله يوصيهم (بنشر ما تعلّموه برفق ولطف، وأن يكونوا مظاهر محبة ورحمـــة على ما قد يلقونه من جفوة من بعض الناس).
4 ـ تربية عقلية:
كما ذكرنا سابقًا، فإن التربية عند ابن باديس اهتمت بجميع جوانب المتعلم، فكما اهتمت بالروح والجسد، فإنها أولت العقل عناية خاصة، بالحفاظ عليه وتثقيفه بكل ما هو نافع من العلوم الدينية والدنيوية، يقول ابن باديس: (حافظ على عقلك، فهو النور الإلهي الذي مُنِحْتَهُ، لتهتدي به إلى طريق السعادة في حياتك).
وقد تميزت المدرسة الباديسية بتنمية القدرات العقلية للطلبة، وحثهم على إعمال عقولهم فيما يدرسون، وأن يفكروا تفكيرًا صحيحًا مستقلاً عن تفكير غيرهم مع الاستفادة من تفكير غيرهم، يقول ابن باديس: (التفكير التفكير يا طلبة العلم، فإن القراءة بلا تفكير لا توصل إلى شيء من العلم، وإنما تربط صاحبها في صخرة الجمود والتقليد، وخير منهما الجاهل البسيط).
وكان رحمه الله، يحثّهم على تكريم العقول، بتنزيهها عن الأوهام والشكوك والخرافات والضلالات، وربطها على العلوم والمعارف وصحيح الاعتقادات.
والخلاصة: أن التربية عند ابن باديس، لم تقتصر على جانب واحد من جوانب شخصية المتعلم. فقد اعتنت بصحة الأبدان وسلامتها، وصفاء الأروح وتزكيتها، وتنشيط العقول وصيانتها.
هذه باختصار بعض الخصائص التي تميّزت بها مدرسة ابن باديس التربوية
المبحث الثالث: الهدف التربوي عند ابن باديس
قبل الدخول في تفاصيل الهدف التربوي عند ابن باديس ومعرفة الأولويات التي راعاها في ذلك، نذكّر بأن الأمة الجزائرية في تلك الفترة كانت مهددة بخطر افتقاد الهوية الذاتية، بضياع شخصيتها وذوبانها في شخصية الأمة الفرنسية المسيحية، فالاستعمار بذل قصارى جهده لتفريغ هذا الشعب من مضمونه الإسلامي، وجعله مسخًا تابعًا له.
في ظل تلك الظروف القائمة، خاض ابن باديس معركته التربوية الرائدة، التي كان من أهدافها التصدي لتلك الحملة الشرسة.
وضع ابن باديس برامجه التربوية لإعداد المتعلمين لحياة تلائم البيئة التي يعيشون فيها، أخذًا في الاعتبار ما ينبغي أن يحدث من تغيير في المجتمع، لاسترجاع الحرية والكرامة المسلوبتين.
الهدف التربوي كما يراه ابن باديس:
بيّن ابن باديس الهدف التربوي الذي يسعى لتحقيقه بأنه: (الرجوع (بالشعب) إلى عقائد الإسلام المبنيّة على العلم، وفضائله المبنية على القوة والرحمة، وأحكامه المبنية على العدل والإحسان، ونظمه المبنية على التعاون بين الأفراد والجماعات، والتآلف والتعامل والتعاون، وأن لا فضل لأحد على أحد إلا بتقوى الله، ومن اتقى الله فهو أنفع الخلق لعباد الله).. فالتربية عند ابن باديس تهدف إلى:
- تحقيق العبودية الخالصة لله، في الحياة الفردية والجماعية، وذلك بتعلم الإسلام من مصادره الأصيلة.
- تكوين المواطن المؤمن المتميز عن المستعمر المغتصب في جميع جوانب حياته، وبالتالي إحداث التميز الاجتماعي للأمة الجزائرية، التي أرادت فرنسا احتواءها وابتلاعها.
- ربط الأجيال بالتراث والحضارة العربيـة الإسلاميـة، وهــو ما يسميه بعض العلماء بوظيفة: (نقــل التــراث) أو (إحيـاء التـــراث).. ويؤكـــد ابن باديس أن هدفه التربوي هو:
- ترقيــــة المجتمـــع الجزائـــري في (جميـــع نواحــي الحيـاة إلى أقصـى ما تترقى إليه الأمم، ليكونوا محترمين من أنفسهم ومن غيرهم، يفيدون ويستفيدون، ويعرفون كيف يسوسون وكيف يُسَاسون، فتربح بهم الإنسانية عضوًا مِن خيرِ مَن عَرَفَتْ من أعضائها).
فـــإذا مــــا تحقـــق للشعب الاستعـــداد الداخلـي للتغييـــر، أو بعبـــارة أخــرى: التخلص من القابلية للاستعمار، مصداقًا لقول الله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )(الرعد:11)، أمكنه الرقي في جميع جوانب الحياة، وذلك بتزويد المتعلمين بالقدر المناسب من المعلومات والخبرات المختلفة، فيساهموا في بناء صرح الأمة وخدمتها والدفاع عنها.
ويمكن تلخيص الهدف التربوي عند ابن باديس بأنه:
1- إحداث التغيير الداخلي في الفرد الجزائري، بإرجاعه إلى دينه وتعلّمه من مصادره الأصيلة، كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم، خاليًا من البدع والشوائب، ليحافظ على شخصيته العربية والإسلامية.
2- تأهيله لتسلّق درجات الرقي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، والوصول إلى مصاف الشعوب الراقية، فيسعد في الدنيا والآخرة
خاتمـة
مما سبق من البحث في جهود الشيخ عبد الحميد بن باديس التربوية، وبعد أن عشت أوقاتًا ممتعة أفتش وأنقّب في خفايا آثاره، حتى استطعت بعون الله وتوفيقه جمع ما تيسر لي في هذا البحث المتواضع، اتضحت لي عظمة هذا الرجل، وأصالة أفكاره وآرائه التربوية، حيث أصبح عَلَمًا من أعلام الإسلام بفضل الله تعالى، ثم بفضل شدة اتصاله بكتابه وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه و سلم، اللذين وجّها منهجه، وأكسباه ما وصل إليه من وضوح في الرؤية، وسداد في الخطى، الأمر الذي جعله موفقًا في دعوته الإصلاحية، خاصة في جانبها التربوي.
ومن خلال استعراضي للآراء التربوية للإمام عبد الحميد بن باديس توصّلت إلى النتائج الآتية:
1 ـ لقـــد كانت لابـن بــاديس جـهــــود متميـــــزة فـــي مجـال التربيـــة والتعليم، ومساهمات موفقة في إصلاح وتطوير مناهجها.
2 ـ أن نجاح أي منهــاج تربوي، يتوقف إلى حــد كبير، على مقـدار ما يراعي هذا المنهاج معتقدات الأمة وعاداتها وتقاليدها.
3 ـ أن أخذ أو اقتباس المناهج التربوية الغربية، مسلّمة، دون رفض أو طرح ما لا يتفق وخصائص الأمة وثوابتها، قد يوجد انشطارًا أو ثنائية في الكيان الاجتماعي والفكري لأفرادها.
4 ـ أن الطابع العربي الإسلامي المتميز للمدرسة الباديسية، جعل الجهود الاستعمارية التي قامت بها فرنسا في الجزائر تتقهقر أمامها، رغم الإمكانات المادية والمعنوية التي سخرت لذلك.
5 ـ دعـــا ابن باديس إلى ضـــرورة الاهتمــام بإعــداد المعلـــم الصالــح، القوي في دينه وتكوينه، لأن إنجاح العملية التربوية، يتوقّف إلى حد كبير على وجود المربّي، الذي يحقّق بسلوكه وممارساته التربوية المثال الصادق لأهداف المنهج التربوي المراد إقامته وتحقيقه.
6 ـ يعتبــــر العلــــم مــن الوســـائل الفعالـة في الإصـــلاح الاجتمــاعـي والأخلاقي، وفي المحافظة على شخصية الأمة وكيانها.
7 ـ التربية في نظـر ابن باديس، تنظـــر إلى الإنســـان نظـــرة متكاملة، لتطال جميع جوانبه الروحية والخُلُقية والجسمية والعقلية والنفسية، وغيرها من الجوانب، من غير تفريط ولا إفراط في جانب دون آخر.
إنما تُقاس الأمم بما تنتجه من الرجال، وإنما تكون منجبة للرجال، يوم تصير تعرف أقدار العاملين من أبنائها.
ويعدّ الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، نموذجًا للعلماء العاملين المجاهدين في القرن العشرين، وآثاره مازالت زادًا علميًا ومادة دسمة لطلاب العلم والباحثين.
وما قمتُ به في هذه الرحلة في رحاب آثار الإمام ابن باديس كان جمعًا لبعض أفكاره المنشورة، وآرائه المسطورة، في مجال التربية والتعليم، لممتُ شتاتها، لأضعها بين دفتي هذا البحث المتواضع، مركزًا على:
1 ـ إظهار العوامل والقوى التي أثرت في فكر ابن باديس.
2 ـ استخلاص واستخراج الآراء التربوية للإمام ابن باديس، من خلال ما نشرته الصحافة الإصلاحية في الجزائر في الثلث الأول من هذا القرن.
والحقيقة أن جهود ابن باديس في مجال التربية والتعليم تحتاج إلى مزيد بحث ودراسة، وما قمت به لم يكن سوى مساهمة بسيطة في إظهار جهود هذا المربي الكبير، راجيًا من الله المثوبة والتوفيق، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
المصدر / موقع المنبر " كتاب الامة "

إنتــــــــــــــــهى


ابن باديس وجهوده التربوية 5

ماسينيسا
طالب نشيط
ماسينيسا
طالب نشيط

السٌّمعَة : 30
ذكر
نقاط : 1460
ابن باديس وجهوده التربوية 5 Empty
ابن باديس وجهوده التربوية 5 Clock13 2012-02-11, 7:01 pm

[ thanks ]

مرسي

[على] الموضوع تستاهل تقييم و تشجيع [على]
المجهودات الرائعة
ننتظر

منكـ
المزيد |
دمت مبدعا و بـــ الله
ـــاركـ فيك
تح
ــياتي وشكري ليك
دمت


ابن باديس وجهوده التربوية 5

استاذ المنتدى
طالب نشيط
استاذ المنتدى
طالب نشيط

السٌّمعَة : 34
ذكر
نقاط : 1989
ابن باديس وجهوده التربوية 5 Empty
http://omaarab.7olm.org/
ابن باديس وجهوده التربوية 5 Clock13 2012-02-19, 7:04 pm

مشــكور على الموضوع

و علـــ إفادتك

لنا و للجمـــيعـ ـــى

ننتظر المزيد من

إبداعاتك و نشاطك

وإفادتك


ابن باديس وجهوده التربوية 5

مدرس المنتدى
طالب نشيط
مدرس المنتدى
طالب نشيط

السٌّمعَة : 35
ذكر
نقاط : 1936
ابن باديس وجهوده التربوية 5 Empty
ابن باديس وجهوده التربوية 5 Clock13 2012-03-28, 9:25 pm

بارك الله فيك فيك يا بطل

نتظر مزيد من الإبداعات


 مواضيع مماثلة

-
» ابن باديس وجهوده التربوية.doc
» ابن باديس وجهوده التربوية 4
» ابن باديس وجهوده التربوية 3
» ابن باديس وجهوده التربوية 2.doc
» ابن باديس + بيت شعري

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: المنتدى :: بــــحوث مدرسية-

Urban Leveling manga | Sweet Enemy manga | Black Queen manga | D-List Actress On The Rise manga | Emp’s Contracted Ex manga | Marry to Find Love manga | Mind-Reading Princess manga | Help! My Pokeman Boyfriend Is real | Exclusive Possession of Your Heart manga | Her Majesty Is Busy manga | raw manga | The Strongest God King | read raw manga | Versatile Mage manga | Release That Witch | Springtime for Blossom | Tales of Demons and Gods | تفسير حلم الثعبان | تفسير حلم قص الشعر | تفسير حلم الحمل | initial d apk | h tweaker apk | apk hello neighbor | Apk D-Touch 4.1 | apk jio 4g voice